لا يا فخامة الرئيس.. ليسوا مرتدين!
gmt 0:15:00 2009 الثلائاء 13 أكتوبر
الشرق الاوسط اللندنية
مشاري الذايدي
لم يكن الرئيس اليمني بحاجة إلى تشبيه انفصاليي الجنوب بأنهم كمن يرتد عن الإسلام.
كان يكفيه أن يتغنى، وله الحق، بإنجاز وحدة التراب اليمني، وتأسيس الجمهورية، وأن يقول الكلام العاطفي والمؤثر حول أن اليمن كان يرزح تحت نير الاستعمار أو الوصاية الأجنبية وتخلف المشيخات وماضوية الإمامة، وأن يتحدث عن التضحيات والدماء التي بذلت من أجل التحام شطري اليمن، لتصبح البلاد سيدة الركن الجنوبي الغربي من الجزيرة العربية، ممسكة بعنق البحر الأحمر وحاضنة لصدر البحر العربي، كل هذا، وغيره، كان يمكن أن يسعف الرئيس علي عبد الله صالح في خطابه الأخير الذي وجهه لمغتربي اليمن وهو يحكي لهم عن الأوضاع المتأزمة في بلادهم، ما بين تمرد طائفي حوثي في الشمال، وآخر إقليمي في الجنوب، وبينهما ثعبان القاعدة الذي يسعى جهده لاعتصار الضحية.
كان يمكن أن يصارح جمهوره بأخطاء الحزب الحاكم الماضية، وأن يخبر أبناء المهجر عن خطته وخطواته لإنقاذ اليمن ومحاسبة المقصرين والفاسدين، حماية للوحدة والجمهورية، وهو رجل المواجهات الصلب والخبير بواقع وتاريخ اليمن. لكن هذا اللجوء إلى استثارة الجانب الديني والمقارنة غير الموفقة بين حركة التمرد الجنوبي بحركة الردة عن الإسلام، كانت هفوة عظيمة، ستؤخذ عليه من قبل خصومه في الجنوب والشمال، وسيتهم الرئيس بأنه يكفر أهل الجنوب، هكذا بإطلاق، رغم أن الرئيس اليمني تحدث بإسهاب في خطابه هذا عن أن أغلبية أبناء الجنوب والحزب الاشتراكي هم مع الوحدة قلبا وقالبا، وتحدث بشكل مؤثر عن التحام المصير بين ثورة الجنوب على الاستعمار وحكم السلاطين وبين ثورة الشمال على حكم الإمامة، ولكن الخصوم، هذا شيء طبيعي، سينسون كل هذا الكلام ويركزون على فقرة «الردة عن الإسلام»، ويحاولون إقناع الجمهور الجنوبي المحايد أو المتردد بأن رئيسهم يتهمهم بالكفر، وهو آخر شيء كان يقصده أو يعنيه الرئيس.
الحق أن هذه المشكلة في الخطاب السياسي، ليست خاصة بهذه الحادثة، فهي معضلة تتصل بالخطاب السياسي العربي كله، وهي الاستخدام المسرف للدين ومحاولة احتكاره، ليصير الصراع على من هو الممثل الأجدر له، خصوصا مع زيادة المشاعر الدينية في منطقتنا بشكل متسارع، والصدور عن معيارية دينية في موضوعات الخلاف السياسي كلها، والأمثلة كثيرة.
هناك تسابق محموم بين الحكومات والسلطات العربية ومعارضيها على التهويش بعصا الدين ومن الأحق بتمثل وتمثيل هذا الدين، وهو سباق خطير ومثير بسبب لا نهائية مثل هذه الصراعات وبسبب نتائجها الخطيرة على التفكير المدني الهادئ والالتفات إلى القضايا الحقيقية المتعلقة بالفقر والفساد والتعليم والعدالة، فهذه موضوعات الخلاف الحقيقية، وهي موضوعات «دنيوية» من شؤون الدنيا، أي خلافات على الأرض، وليست جداليات أخروية أو من شؤون عالم الغيب، ودنيا السماء. القوى السياسية العربية، سواء في الحكم أو خارجه، تصدر عن فكرة واحدة هي أن «الجمهور» العربي كله متشبع بالدين واللغة الدينية ولا يفهم القضايا إلا بعد إلباسها عباءة دينية، ولا يمكن تحريك «وحش» الجماهير إلا بعد التلويح له بخرقة العاطفة الدينية!
لم يسأل أحد نفسه، موالاة أو معارضة، عن: هل الجماهير العربية فعلا صماء إلا عن صوت التجييش الديني؟ هذا أولا، ثم لو كان الأمر كذلك فعلا، فمن الذي جعل الجمهور العربي على هذه السوية الفقيرة عقليا؟ أليست جل القوى السياسية العربية، حكمت أو لم تحكم، هي المسؤولة عن تديين الجمهور العربي؟ طبعا نتحدث عن القوى السياسية العربية، بالذات، منذ حرب الخليج الثانية فصاعدا، وصولا إلى انفجار الغرائز الطائفية والدينية بعد 11 سبتمبر وتفاعلاته (حرب أفغانستان، سقوط صدام حسين، حروب لبنان وحزب الله، القاعدة في اليمن والصومال.. الخ).
الجمهور العربي، بدرجات متفاوتة، ليس دائما كما يتوهمه قادة القوى السياسية، فهو ليس «ثورا» سهل الاستفزاز والتوجيه دائما بمجرد التلويح له بخرقة العاطفة الدينية، هناك لحظات وعي مثيرة يعود فيها أفراد الجمهور إلى وضع قضايا الخلاف في إطارها الطبيعي، إطار «الخدمات» والمطلبيات المدنية، ولنا في نموذج انفضاض كثير من الجمهور العراقي عن الأحزاب الدينية في انتخابات المحافظات العرقية دليل على هذه الدعوى التي نقول. لكن للأسف، هذه لحظات قليلة في سياق حالة شبه دائمة من إشغال متعمد للجمهور بحروب اجتماعية وإعلامية تتمحور حول قضايا دينية وطائفية، كما يجري الآن في العراق واليمن ولبنان وباكستان وكثير من بلدان الخليج.
هنا سؤال: هل ظاهرة توظيف الدين في الخلافات السياسية جديدة؟ وهل هي مقتصرة على الحكام؟
الجواب: لا، فهي ليست ظاهرة جديدة، كما أنها ليست مقتصرة على الحكام؟
ففي التاريخ الإسلامي كانت تصفية المعارضين ومحاربة الجماعات الثائرة تتم تحت شعارات دينية حتى يستطيع الحاكم تجنيد الناس وتبرير الحرب أمام الرأي العام، حصل ذلك في كل الحروب الداخلية الإسلامية الكبرى من الجمل إلى صفين إلى النهراوان إلى الحروب العباسية ضد الأمويين إلى حروب الصفويين والعثمانيين، وقد كتب تراث غزير حول هذه الحروب، تحول إلى تراث ديني، كان في أصله خطابات تبرير سياسية بلغة دينية، تسربت مع الوقت إلى حقل الفقه والنظرية السياسية الشرعية، لتصبح مذاهب كاملة وأنسقة مغلقة. نفس هذا الجهد التبريري تم من قبل الحكام ضد «الأفراد» المعارضين، فقتل أو طورد الكثير من المثقفين المعارضين تحت عناوين مختلفة، يجمعها، أعني التهم، صفة مشتركة، هي مروق المقتولين أو المطاردين من الدين، وذهب ضحية ذلك بعض من لا ناقة له ولا جمل في السياسة والفكر، فتمت تصفيته بعنوان الزندقة، كما حدث مع الشاعر العباسي المسكين علي بن جبلة الملقب بـ (العكوك) الذي قتله الخليفة لأنه مدح أحد قواد الجيش أكثر منه، لكنه لما قتله برر قتله له بشكل ديني بذريعة أن الشاعر زنديق، في قصة معروفة.
استمر هذا السلوك إلى وقتنا القريب، ومن يقرأ يعرف كيف حرض فؤاد، ملك مصر، على العالم الأزهري المتحرر الشيخ علي عبد الرازق الذي ألف كتابه الشهير (الإسلام وأصول الحكم) سنة 1925 لنقض نظرية تقديس منصب الخلافة، وهو المنصب الذي ألغي في تركيا 1924 بعد ثورة أتاتورك، وقد قطع حكام ذلك الوقت من المسلمين بوراثة هذا اللقب بما يعنيه من سطوة وسلطة، وكان فؤاد من أبرز الحالمين، لكن كتاب الشيخ علي الحاسم كان رفضا فقهيا وفكريا لهذا الحلم، وأحبطت أحلام فؤاد في وراثة منصب الخلافة، فكان العقاب للشيخ علي هو الوصم بالمروق والزندقة والطرد من زمرة العلماء الأزهريين.
في المقابل، وبشكل أكثر حدة وإسرافا، كانت جماعات المعارضة السياسية منذ القديم وإلى وقتنا مغرقة في توظيف الدين واستنزافه في التجييش ضد الدولة والحكام، خذ لديك الخوارج والشيعة والباطنية قديما، وحديثا الإخوان المسلمين وحزب التحرير وكل جماعات الجهادية السلفية من قاعدة وغيرها، وجماعات المعارضة الشيعية في العراق واليمن، كلها تهوش بعصا الدين وادعاء احتكاره وأن السلطات انحرفت وزاغت عن الصراط المستقيم، وأن غرض هذه الجماعات تقويم الانحراف عن الدين فقط، مع إخفاء طمع وشهوة الوصول للسلطة.
وعودا لحديثنا الأساسي، فقضية الوحدة في اليمن ونهضة اليمنيين وحماية هذه الوحدة بالغالي والنفيس، هي قضية شريفة ونبيلة يمكن أن تملك الدفاع عن نفسها بنفسها دون الحاجة إلى استدعاء لغة التكفير والنبذ من الإسلام، فأهل الجنوب، حتى الانفصاليون منهم لم يخرجوا من الإسلام، وكذلك الحوثيون هم من المسلمين ولم يخرجوا من الإسلام، بل حتى أبناء تنظيم القاعدة، كل هؤلاء داخل خيمة الإسلام، وليسوا مرتدين عن الدين، مثلما نقول لهذه الجماعات المعارضة أيضا إن الحكومات العربية كلها حكومات مسلمة وليست مارقة من الدين كما تقولون.
قضية الرئيس اليمني قضية عادلة ونبيلة، إذا أدارها بشكل صحيح، ليست بحاجة إلى تهم الردة، فالخصوم أيضا لا يقصرون في رد التهمة بمثلها وأضعافها.
الخلاف هو بين مسلمين على قضايا محددة، وليس على الإسلام وموضوعات دينية وكلامية.
أمر بسيط وسهل، وتستغرب حقا لماذا الذهاب بعيدا نحو تهم الردة والتكفير والإسلام والتاريخ، القضية واضحة والخلاف محدد، ولكنها متطلبات المكر السياسي، التي تجني أول ما تجني على نقاء صورة الإسلام نفسها.
ليتنا ندع التراشق الديني والتهم التكفيرية جانبا، ونتجادل في الدنيا، إلا إذا كنا نعتقد أن جدالنا في الدنيا سيكشف كم نحن عنها غائبون، ولذلك نغطي انكشافنا بعباءة الدين..